آثار الذنـوب والمعـاصي على العباد والبلاد
لــ إبراهيم البغدادي سبها - ليبيا
..................................
الخطبـــــــــــــــــــــة الأولـــــــــــــــــى
الْحَمْدُ للهِ نَحْمَدُهُ ونسْتعينُه، وَنَسْتغْفِرُهُ ونتُوبُ إليْه، وَنَعُوذُ بالله مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَه, وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَاديَ لَه, وَأَشْهَدُ أَن لَّا إلَه إلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَريكَ لَه, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمداً عبْدُهُ وَرَسولُه، وَصَفِيُّهُ وَخَليلُه, وَأَمينُهُ عَلَى وَحْيِه, فَصَلَوَاتُ الله وَسَلَامُهُ عليْه, وَعَلَى آله وَصَحْبه أَجْمَعين.
أما بعد: فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ الله، وَرَاقِبُوهُ فِي السِّرِّ وَالْعَلَن؛ فإنَّ اللهَ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وما تُخْفِي الصُّدُور.
أيُّها المُسْلمون: يقولُ تَعَالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ، فَمَنِ اتَّقَى اللهَ وَقَاه، ومِن كلِّ ما أهمَّهُ كَفاه. وَيَقُولُ النبيُّ : "مَنْ أصْبَحَ مِنكُمْ آمناً في سِربه، مُعَافىً في جَسَده، عِنْدَهُ قوتُ يومِه، فكأنّما حِيزَتْ لهُ الدُّنْيَا" رواهُ الترْمِذِيُّ وابنُ مَاجَه. جَعلَ النبيُّ أُصُولَ حِيَازَةِ الدُّنْيَا ثَلَاثةَ أَشْيَاء: الْأَمنُ في الْأَوْطَان، والْمُعَافَاةُ في الْأَبْدَان، والرِّزْقُ والكفاف، ففَقدُ الْأمن؛ فقْدٌ لثُلُث الْحياة، والثلثُ كمَا نَعْلَمُ كثير.
ولَمَّا كان الأمنُ ثُلُثَ الْعَيْش، امْتَنَّ اللهُ بِهِ عَلَى الأَسْلَافِ مِنْ قُرَيْش، فَقَالَ تَعَالَى: فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَءَامَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ.
إِخوةَ الْإسلام: الْأمنُ والْأَمَان، والطمأْنِينَةُ والاستقرار، مطلبٌ ضروريّ من مطالبِ الإنسان، ففي ظلِّ الأمْن، يرْغَدُ الْعَيْشُ، وينتشِرُ العِلْم، ويتفرَّغُ الناسُ لِعِبَادَةِ رَبِّهِم، وَمَصَالِحِ دُنْيَاهُمْ؛ لذا كانتْ دعوةُ إبراهيمَ عليه السلام: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ ءَامِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ رَّبَّنَا إِنِّيَ أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ. فانظرُوا إخوةَ الإسلام، كيفَ قدَّمَ الخليلُ عليهِ السَّلام، الْأَمنُ على طلبِ الرزق؛ لِأَنَّهُ لَا يَهْنَأُ عيشٌ بِلا أَمَان، وقدِ امتنّ الله تعالى على عِبادِهِ بِالأمْنِ فِي مَوَاضِعَ كَثيرةٍ مِنْ كِتَابِه، مِنْهَا قَوْلُهُ سُبْحَانه: وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَّتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَئَاوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.
أيّها المسلمون: وَلَا زَالَتْ هَذه النِّعَم، متَوَاليَةً منَ الله، وَمَا انتُقِصَت إلَّا حِينَ انتقَصَ الناسُ من دينهم، فبدَّلوا وغيَّروا، وَمَا ضَاقتِ الأرْزاق، ووقعَتِ القلاقلُ والفِتن، واستُضعِفَ المُسلمُون في أرجاء الأرض، إلاَّ حِينَ خَبطَ الشركُ والمعاصي، في بعضِ نواحي بِلادِ المسلمين، فبِقدرِ الإيمان والتّقوى، تكونُ النِّعَمُ والخَيرات، وبِهِمَا تُفتَحُ بَرَكَاتُ الأَرضِ والسمَاء، وبِهِمَا يتحقَّقُ الأمنُ والرَّخاء، وصدقَ اللهُ حينَ قال: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءَامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ؛ فَالْأَمنُ مَرْبُوطٌ بِالإيمان،كَمَا يَقولُ اللهُ تعالى: الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ.
أمّا إنْ بدَّلَ الْعِبَادُ وغيَّرُوا، وغَاصُوا في الذُّنُوبِ والمَعاصي؛ فإنَّ سُنَنَ اللهِ لَا تُحَابِي، وقَدْ قَالَ اللهُ تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءَامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ. وَإنّنا وللهِ الحَمْد، لَا زِلْنا في خيرٍ مِنَ اللهِ بِدِينِنَا، وفضلِ اللهِ علينا، لكنِ النُّذُر الإلهية، مذكِّرةٌ لِمَن كَان له قلبٌ أو ألقى السَّمْعَ وهو شَهيد، كما قالَ اللهُ تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ.
فحِفظُ النِّعَم، وتفادِي النِّقم، لَا يكونُ إلاّ بطاعةِ اللهِ ورسُولِه، ومَنْ خالف، جَرَت عليه سنَّةُ الله. وإنَّ ما يُصيبنَا اليومَ إِخوةَ الْإِسْلام، لهيَ نُذُرٌ إلهيّة، لئلاَّ ينسَى النَّاسُ ربَّهم، ليعودَ الشَّارِد، ويتنبَّهَ الغافِل، ويستغفرَ الْمُذْنِب.
فَإنّ المعاصيَ والذنوب، سببٌ رئيسيٌّ للخوفِ والقلَق والمصائِبِ والفِتن، قال اللهُ تعالى مُحَذِّراً مِن مُخالفةِ رسُوله : فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. ولمَّا أمر الله تعالى بطاعَتِهِ وطاعةِ رسُولِهِ في قوله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ، وَقَالَ فيمَا بَعد: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً، قال ابنُ عبّاسٍ رضيَ اللهُ عنهُمَا: "أمَر اللهُ المؤمنين أن لا يُقِرُّوا المُنكرَ بين أَظْهُرِهِمْ، فيعُمَّهُمُ العَذَاب"، ثُمَّ بَعدَها امْتنَّ اللهُ عَلى المؤمنين، بِتَذْكِيرِهِم بما كانوا عليهِ من خوفٍ ثُمَّ آمَنَهُم، في إشارةٍ إلى أنَّ مخالفةَ أمرِ اللهِ ورسُولِه، مُؤْذِنةٌ بِالفِتَنِ والخَوْفِ وانْعِدَامِ الْأَمْن: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَّتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَــئَاوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ.
فَطَاعَةُ اللهِ ورسولِه، سبِيلٌ للثّباتِ وَالنَّجَاةِ من الْأَزَمَات، وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً وَإِذًا ءَلَّاتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً.
فَنَحْنُ الْيَوْم، بحاجةٍ ماسَّةٍ إلَى مُراجعةِ أَنْفُسِنا، وَالْعَوْدَةِ إلى ربِّنَا، وتَرْكِ الْمُنْكَرَات، وَالتَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ والتَّقْوَى، خُصوصاً في هذه الظُّروفِ الْحَرِجَة، الَّتِي تَمُرُّ بِهَا الْبِلَاد، والتي تسلَّط فِيهَا الأعْدَاءُ علينَا وَعَلَى الْإسلام، وفي هذه الأزمات، علينا الرُّجُوعُ إلى اللهِ تعالى، والاِلْتجاءِ إليه، والْأَمْرُ بِالمعروف، والنَّهْيُ عنِ المُنْكَر، وَالِابْتِعاد عن الذُّنُوبِ والمعاصي، أمّا الغفلةُ والتَّمَادِي في هذه الذُّنوب، والإصرارُ عليْها، وَمُخالفةُ أوامرَ الله تعالى، مَجلَبةٌ لِلنِّقم وَمُزيلةٌ لِلنِّعَم، وتَعْظُمُ الْمُصِيبَة، إذا كانتِ الذُّنُوبُ تُشهَرُ وتُعرَضُ وَلَا تُنْكَر، كمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ : "كلُّ أمَّتِي مُعَافَى إِلاَّ الْمُجَاهِرِين" رواهُ البُخاريُّ ومُسلم.
ولذا عباد الله؛ فأهلُ الطاعةِ والتقوى، في مأمنٍ من الهُمومِ والغُموم، وفي بُعْدٍ عن الضَّجَرِ والقَلَق، ذلك بِأنَّهُم حقّقُوا طاعَةَ الله، واجْتَنَبُوا مَعَاصِيَه، فَرَبُّنَا جَلَّ وعلا يقول: فَمَنْ ءامَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ.
ويقُولُ تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ.
أقولُ مَا تَسْمعون، وأستغفرُ الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم، ولا حوْلَ ولا قوةَ إلَّا بالله العَلي العَظيم .
الخطبـــــــــــــــــــــة الثانيــــــــــــــة
الحمدُ لله حمداً كثيراً كما يُحبُّ ربُّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَهُ لا شريك له، عالمُ السِّرِّ وأخفَى، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِه، وسلمَ تسليماً كثيراً.
وبعدُ أيها المسلمون: فإنَّ المَعاصي والذُّنوب، متى تفشَّت في المجتمع، تعسَّرت عليه أمورُه، وانْغَلَقَت أمَامَهُ السُّبُل، فيجدُ أفرادُهُ حِينَئِذ، أبوابَ الخيرِ وَالمصَالح، مسدُودةً أمامهم، وطَرْقَهَا مُعَسَّرَةً عَلَيْهِمْ، واللهُ تَعَالَى يقُول: وَمَن يَّتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً، ومتى استمرتْ هذه الذُّنوب، فإِنَّ البلدَ لنْ يرى النُّورَ أبداً، وسيستمرُّ مسلسلُ القتلُ والاقْتِتَال، والتَّنَاحُرُ بيْنَ أفرادِ هَذَا البَلَدِ الْوَاحِد، فَاللهُ جلَّ وَعَلَا، لَا يأمرُ إلَّا بمَا يَتَضَمَّن كُلَّ خَيْرٍ لِلْعباد، وما يُحَقِّقُ المَصَالحَ في المعاشِ والمعاد، ومن هنا فالذنوبُ والمعاصي من أعظمِ الأضْرارِ عَلَى العِبَادِ وَالْبِلَاد، بَلْ كُلُّ شَرٍّ في الدنيا والآخرة؛ فَأَسَاسُه ارْتِكَابُ الآثَامِ وَالْمُوبِقَات، وَسَبَبُهُ اجْتراحُ الْمَعَاصِي وَالسَّيِّئَات.
فاتقوا اللهَ عبادَ الله، وحَقِّقُوا طَاعتَهُ تُفْلِحُوا، واجْتَنِبُوا مَعَاصيَهُ تَسْعَدُوا، وَمَنْ يُّطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً.
هذا؛ وصلُّوا وسلموا أيها المسلمون على خير خلقِ الله، محمدٌ بن عبدِالله، فقد أمركمُ اللهُ بذلك في قوله: إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يَصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَــــأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً .
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسُولِكَ محمد، وارضَ اللهُمَّ عن خُلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين. اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أَئِمَّتَنَا ووُلاةَ أمورنا. اللهم إنا نعوذ بك من الفتن، ما ظهر منها وما بطن.
اللهم احقِن دماءَ المسلمين في كل مكان.
رَبَّنَا ءَاتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي اءَلاْخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
سُبْحَانَ ربِّنا ربِّ العزَّةِ عما يصفون وسلامٌ على المرسلين والحمدُ للهِ ربِّ العالمين.